أياما كثيرة وهم يبحثون عن هذه البقرة فلم يجدونها .
فهل لا توجد بقرة ينطبق عليها تلك المواصفات التى طلبها نبى الله موسى عليه السلام منهم ؟
أم أنها موجودة ولكن لم يجدوها بعد ؟
وإذا كانت موجودة فأين تكون هذه البقرة ؟!
كانت هذه البقرة بهذه المواصفات جميعا لا توجد إلا عند رجل في بني إسرائيل من أبر الناس بوالديه .
وبلغ من بره بأبيه وأمه أن تاجرًا مر به معه لؤلؤ يبيعه .
وكان أبوه نائما تحت رأسه المفتاح .
فقال له التاجر : تشتري مني هذا اللؤلؤ بسبعين ألفا؟
فقال صاخب البقرة : كما أنت حتى يستيقظ أبي فآخذه منك بثمانين ألفا.
قال التاجر : أيقظ أباك وهو لك بستين ألفا .
فقال صاخب البقرة : كما أنت حتى يستيقظ أبي فآخذه منك بتسعين ألفا.
فجعل التاجر يحط له حتى بلغ ثلاثين ألفا .
وزاد صاحب البقرة فى ثمن اللؤلؤ ، بشرط أن ينتظر أباه حتى يستيقظ حتى بلغ مئة ألف .
فلما أكثر عليه ، قال والله لا أشتريه منك بشيء أبدا .
وأبى أن يوقظ أباه .
فعوضه الله من ذلك اللؤلؤ أن جعل له تلك البقرة .
فمرت به بنو إسرائيل أثناء بحثهم عن البقرة .
وأبصروا البقرة عنده
وأخذوا يستعرضون المواصفات المطلوبة ..
من حيث السن ، من حيث اللون ،
من حيث السلامة من العيوب ،
ومن حيث العمل فى الأرض أو سقى الزرع ،
فوجدوا الأوصاف متطابقة تماما ، وعلموا أنهم أمام البقرة المطلوبة.
فسألوه أن يبيعهم إياها بقرة ببقرة فأبى .
فأعطوه ثنتين فأبى ، فزادوه حتى بلغوا عشرا .
فقالوا : والله لا نتركك حتى نأخذها منك .
فانطلقوا به إلى موسى عليه السلام .
فقالوا يا نبي الله : إنا وجدناها عند هذا الرجل ، وإنه رفض أن يعطينا البقرة .
فقال له موسى عليه السلام : أعطهم بقرتك .
فقال : يا رسول الله ! أو لستُ أنا أحق بمالي ؟
فقال موسى عليه السلام : صدقت .
وقال موسى عليه السلام للقوم : لا أجد إلا أن ترضوا صاحبكم .
فذهبوا إليه وأخذوا يرجونه ، وشرحوا له ما حدث .
وبعد سماع قصتهم رفض أن يعطيهم البقرة بأى ثمن
فأخذوا يزيدون فى ثمنها أضعافا أضعافا
وما رضى حتى أخذوها منه بمثل وزنها ذهبا .
فأخذوها وخرجوا من عنده وهم يشعرون أنهم ظفروا بها رغم ما دفعوه فيها من ذهب ، بل لم يصدِّقوا أنفسهم أنهم حصلوا عليها .
أخذوا البقرة وذهبوا بها إلى موسى عليه السلام بعد تعب وعناء وبعد رحلة بحث طويلة ، وبعد ثمن باهظ .
فأمرهم نبى الله موسى عليه السلام أن يذبحوها ففعلوا .
وكان يوما مشهودًا انتظرته بنو اسرائيل طويلا .
ثم أمرهم أن يأخذوا جزءًا منها فيضربوا بهذا الجزء على القتيل ففعلوا .
فانتصب الميت واقفا بعد أن دبت فيه الروح وعادت إليه الحياة ، بإذن من يقول للشئ كن فيكون .
فسألوه أمام أهل القريتين وأمام نبى الله موسى عليه السلام
قالوا : من الذى قتلك ؟
فقال : قتلنى ابن أخى هذا .
قالوا : كيف ولم قتلك ؟
قال لهم : قتلنى ليرثنى وليتزوج ابنتى ، وحكى لهم كيف قتله .
فقال موسى عليه السلام : أتريدون أن تسألوه عن شئ آخر ؟
فسكتوا دليلا على أنهم اكتفوا بهذا القدر .
ثم عاد الرجل ميتًا كما كان .
فأخذ القاتل يقسم أنه ما قتله .
وأنه برئ من دمه .
فتعجب موسى عليه السلام من قسوة قلوب بنى إسرائيل وشدة عنادهم .. يا لها من قلوب متحجرة يحيى الله الموتى أمام أعينهم ليستجيبوا لأوامر الله ..
ولكن هيهات هيهات .
إنها قلوب كالحجارة .
هذا إذا لم نكن قد ظلمنا الحجارة إذا شبهناها بقلوب هؤلاء المعاندين .
فإن من الحجارة ما يتفجر منه الأنهار وعيون الماء .
وإن منها لما يهبط من خشية الله سبحانه .
وأعرض موسى عليه السلام عن اعتذار ذلك القاتل المعاند الماكر ، وأُمر بهذا القاتل فقُتل .
وصارت سنةً فى دين الله ، أن القاتل لا يرث من القتيل شيئًا .
فماذا أخذ هذا الشاب المُبْطِن للمكر والدهاء ؟
لم يرث مالا ! ولم يتزوج الصبية ! ولم يأكل دية عمه !
وما زاد إلا أن أصبح لعينا عند الله وعند الناس .
واستحقت هذه القصة أن يخلدها الله فى كتابه لنأخذ منها الدروس والعبر ، بل إن سورة البقرة ما سُميت بهذا الاسم إلا نسبة إلي هذه الحادثة ، فقال الله تعالى :
وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين [67] قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك فافعلوا ما تؤمرون [68] قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين [69] قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا وإنا إن شاء الله لمهتدون [70] قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث مسلمة لا شية فيها قالوا الآن جئت بالحق فذبحوها وما كادوا يفعلون [71] وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها والله مخرج ما كنتم تكتمون [72] فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون [73] ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغافل عما تعملون [74] .