كان الجزاء من جنس العمل ،
فكما مكروا وخططوا فى منع المساكين من الثمار ،
وبينما كانوا نائمين لا يشعرون بشئ ،
حيث ناموا أول الليل طمعا في القيام مبكرين .
وخلافا لظنهم
فإن الله الذي لا تأخذه سنة ولا نوم ،
ما كان ليغفل عن تدبير خلقه و إجراء سننه في الحياة ،
فقد أرسل الله على جنتهم طائفًا من عنده جعلها ،
تبدو وكأنها قد تم جَنْىُ ثمارِها قبل ذلك ،
وليعيدوها الى حالها لو كانوا يستطيعون !
وهل يقف مكر الإنسان الضعيف أمام تدبير الله وقدرته ؟!!
كلا .. كلا
فقد حُسمت القضية وانتهى الأمر .
وقد أرادوا خداع المساكين وتضليلهم ،
فما خدعوا إلا أنفسهم
وهم فى غفلتهم نائمون لا يدرون ما حدث .
و إذا استطاعوا أن يخفوا مكرهم عن المساكين ،
فهل استطاعوا أن يخفوه عن عالم الغيب و الشهادة ؟
كلا .. كلا
لقد أرادوا أن يَمْنَعُوا فمُنعُوا ، وأرادوا أن يَخْدَعُوا فخُدِعُوا .
فهذه من تلك .
و لأن من طبيعة الإنسان انه يكون سريع الانتباه من الرقاد عند انتظار أمر هام ، فإنهم كانوا أيقاظا قبيل الصبح .
[ فتنادوا مصبحين ]
نادى بعضهم بعضا ، و أجمعوا بالفعل على ضرورة التبكير في الذهاب إلى الجنة و جمعها ،
و استحث بعضهم بعضا لجنى الثمار ،
وكانوا ينادون على بعضهم البعض بأصوات متخافتة ، حتى لا يسمع بهم أحد .
حتى فى طريقهم إلى الجنة كانوا يتكلمون بصوت خفيض خافت ،
حتى لا يشعر بهم أحد من الناس فيفتضحوا .
وانطلقوا وهم فى حذر بالغ ،
و كانوا في أثناء انطلاقهم يسرون الحديث و التآمر .
و عملوا المستحيل من أجل ذلك
بل كان همُهم الشاغل الذي تخافتوا به طيلة الطريق إلى جنتهم ،
و هو إخفاء الأمر على المحتاجين حتى لا يسألوهم شيئا مما يجمعون .
وحتى لا يدخل عليهم مسكين فى هذا اليوم ،
وفى هذا اليوم بالذات .
وصل أصحاب الجنة إلى جنتهم ..
فما عرفوها ،
و أنكروها ..
وفركوا أعينهم جيدًا ليتأكدوا
فوجدوا الجنة غير الجنة التى رأوها قبل ذلك ..
بل وجدوها قد استحالت على تلك النضارة والزهرة وكثرة الثمار ،
إلى أن صارت سوداء مدلهمة،
لا يُنتفع بشيء منها ،
فاعتقدوا أنهم قد أخطأوا الطريق ..
قالوا إنا لضالون ،
وأخذوا يبحثون عن جنتهم مرة أخرى ،
و لكن كيف يضل الإنسان عن أرضه ؟!
كلا .. إنها أرضهم بعينها ،
فتأكدوا أنها هى جنتهم .
وأخذوا يتعجبون ما الذى حدث ؟
وما الذى فعل ذلك بجنتهم ؟!
إنهم ضالون عن الحقيقة و ليسوا ضالين عن جنتهم ،
وإنما حرمهم الله بمشيئته و حكمته .
فقالوا : بل نحن محرومون ، بسبب ذنوبنا .
و هناك علاقة بين ضلال الإنسان و حرمانه ،
و بلوغ الإنسان إلى تطلعاته و أهدافه ، متصل بالمنهج الذي يتبعه في الحياة ،
فحينما يخطىء اختيار المنهج أو يضل عن المنهج الصحيح ،
فإنه بصورة طبيعية مباشرة ،
سيُحرم ليس من أهدافه المعنوية فقط ،
بل حتى المادية منها ،
فإن العبد يُحرم الرزق بالذنب يصيبه
ودار بينهم حوار طويل ..
قال أخوهم الذى نصحهم قبل ذلك :
ألم أقل لكم لولا تسبحون الله ،
بشكر نعمته وبتأدية الزكاة للفقراء ؟!
فطأطأوا رءوسهم ، ثم نظروا إلى أخيهم الذى كان متحمسًا لعدم أداء حق الفقراء ،
وقالوا له : أنت الذى شجعتنا على ذلك ،
فأشاح لهم بيده : وأنتم أطعتمونى .
قال الأخ الناصح لهم : ليس المهم الآن من بدأ ومن أطاع .
قالوا : ما المهم إذن ؟
قال لهم : المهم أن نتوب إلى الله ونستغفره عن ذنبنا الكبير .
ثم أتبع حديثه ..
لقد كان أبونا رجلا صالحا ، ولذا فقد بارك الله له فى الجنة ،
أما نحن ...
فقد جحدنا نعم الله فأزالها عنا .
فالحمد لله أن الله لم يأخذنا بذنوبنا ، وكان قادرًا على أن يصيبنا بالموت والهلاك مع هذه الأرض .
ولكن ربما أراد الله لنا توبة من عنده ، بسبب أن أبانا كان رجلا صالحًا.
أو أن الله يريد أن نتوب إليه ..
قالوا : صدقت . وإنا تائبون إلى الله .
والحمد لله أننا تبنا إليه قبل الممات .
وتفجرت صورة أبيهم الصالح فى أذهانهم وأخذوا يترحمون عليه ، بعدما كانوا يحاولون نسيانه .
وتذكروا جريمتهم ..
فوجدوها جريمة بشعة .. ما أقبحها وأخسها
قالوا : يا ولينا إنا كنا طاغين
و هكذا أصبح الحادث المريع ،
بمثابة صدمة قوية أيقظتهم من نوبة الضلال و الحرمان ،
و بداية لرحلة فى آفاق التوبة و الإنابة ،
والتي أولها اكتشاف الإنسان لخطئه في الحياة .
ثم طمعوا فى رحمة الله سبحانه فى الدنيا والآخرة
وقالوا : ( عسى ربنا أن يبدلنا خيرا منها )
واتفقوا فيما بينهم ..
وأقسموا وتعاقدوا على ما يلى ..
قالوا : إنْ أبدلنا الله خيرًا منها ،
لَنَصْنَعَنَّ كما صنع أبونا
فأخذوا يدعون الله .
ويتضرعون ..
فأبدلهم الله ما هو خير من جنتهم .
أبدلهم توبة صادقة .. وعزما أكيدًا .. ونية صالحة .
بل من العلماء من يذكر أن الله أبدلهم بجنة أخرى ، لما رأى حُسنَ توبتهم وعزمهم الطيب ..
وقد سجل الله تعالى هذه القصة التى وقعت وعاشها أصحابها ..
فقال الله تعالى فى سورة القلم:
إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة إذ أقسموا ليصرِّمُنها مصبحين ولا يستثنون فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون فأصبحت كالصريم فتنادوا مصبحين أن اغدوا على حرثكم إن كنتم صارمين فانطلقوا وهم يتخافتون أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين وغدوا على حرد قادرين فلما رأوها قالوا إنا لضالون بل نحن محرومون قال أوسطهم ألم أقل لكم لولا تسبحون قالوا سبحان ربنا إنا كنا ظالمين فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون قالوا يا ويلنا إنا كنا طاغين عسى ربنا أن يبدلنا خيراً منها إنا إلى ربنا راغبون كذلك العذاب ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون
[القلم :17-33].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
البرُ حُسنُ الخُلقِ .والإثمُ ما حاكَ فى نفسِك ، وكرهتَ أن يطلِّعَ عليه الناسُ .
صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم...