فى يوم من الأيام و بينما كان " عبد الله " يسير فى الطريق المتجه إلى الساحر إذ وجد الناس يجرون فى كل اتجاه مذعورين .
ونظر فهاله ما رأى لقد رأى دابة عظيمة لا قوة لأحد بها .
فقال الغلام فى نفسه : اليوم أعلم آلساحر أفضل أم الراهب أفضل؟
فأخذ حجرا واتجه إلى الدابة ليقذفها بالحجر .
وأخذ الناس يتعجبون من هذا الغلام فبدلا أن يجرى منها ..
إنه يتجه إليها بكل ثبات !
انظر إليه انه يقترب أكثر وأكثر .. يا له من منظر عجيب !
وما هذا الحجر البسيط الذى يحمله ليقتل بها تلك الدابة العظيمة .
وأخذ الناس ينادون عليه وهم موقنون أنه ميت لا محالة إن أصر على ذلك.
لكن الغلام قال بكل يقين : اللهم! إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يمضى الناس.
فرماها ..
يا للمفاجأة ! إنها تترنح .. وتتهاوى .. وتسقط ميتة .
وهنا صاح مئات الناس مهللين بما حدث ، فرحين بما صنعه الغلام .
وأصبح منذ هذه اللحظة من نجوم المجتمع الذين يشار إليهم بالبنان .
وهنا تأكد الغلام من حاسته الداخلية التى كانت تناديه أن الراهب على الحق ، فمضى " عبد الله " إلى الراهب يقص عليه ما حدث .
فقال له الراهب : أى بنى! أنت، اليوم، أفضل منى.
وسوف يعذبك الملك وجنوده .
الغلام : ولماذا يعذبوني ؟!
الراهب : أتظن أن طريق الإيمان طريقا سهلا ؟!
إن المؤمن لا بد أن يختبره الله ، لكي يتبين المؤمن الصادق من غيره. ولتزداد درجات المؤمن عند الله .
ولكن يا بنى إذا دعاك الملك وجنوده فضربوك أو آذوك فلا تخبرهم عنى فإني رجل كبير ضعيف كما ترى وأخشى ألا أصبر .
الغلام : أفعل بإذن الله .
و رجع الغلام "عبد الله" إلى قريته
وجاءه بعضهم يقول له كيف استطعت أن تفعل ذلك ؟
فقال : إن الله هو الذى قتلها وما أنا إلا رامي فقط .
قالوا : الله ! تقصد الملك ؟
قال : كلا . بل رب الملوك جميعًا . الذى خلقنا من العدم ورزقنا .
وهو يحيى ويميت . ويشفى ويمرض.
فقال له أحد الجالسين وكان به برص : هل تستطيع أن تشفيني يا غلام؟
قال الغلام : إذا آمنت بالله ، فإني أدعوه لك أن يشفيك .
فآمن الرجل ، ثم دعا الغلام الله له ، فأصبح جلده كأحسن الرجال.
وأخذ المرضى يتجهون إلى "عبد الله " ليدعوا لهم .
فيؤمنوا ويصيروا أصحاء .
وكان للملك جليس أعمى فسمع بذلك .
فذهب إليه و هو يحمل هدايا كثيرة.
فقال جليس الملك : إن هذه الهدايا لا تساوى شيئًا بجوار الأشياء التى سأحضرها لك إن أنت شفيتني .
فقال عبد الله : إني لا أشفى أحدا. إنما يشفى الله.
فإن أنت آمنت بالله دعوت الله فشفاك.
فآمن جليس الملك بالله. ثم دعا له الغلام ، فشفاه الله.
فطار الرجل فرحًا بإيمانه الذى أزال ظلام قلبه .
وفرحًا ببصره الذى أزال عنه ظلام الدنيا .
فى مجلس الملك جاء الرجل الأعمى مبصرًا .
فقال له الملك متعجبًا: من رد عليك بصرك؟
قال: ربى.
قال: هل لك رب غيري؟
قال: ربى وربك الله.
فوجئ الملك بهذا الأمر، فنادى على جنوده وأمرهم أن يعذبوه حتى يقول من أين أتى بما يقول .
فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام.
قال الملك : يا له من غلام !
لقد تفوق على ساحرنا الكبير .
وأرسل أحدهم ليأتي بالغلام والساحر .
فجئ بالغلام .. ووقف أمام الملك .
فقال له الملك: أى بنى! قد بلغ من سحرك ما تبرئ الأكمه والأبرص وتفعل و تفعل.
فقال: إني لا أشفى أحدا. إنما يشفى الله.
وهذا ليس سحرًا إنما هو من عند الله .
فأنا ما تعلمت السحر إلا من هذا الساحر الكبير .
وما ذهبت إليه إلا فترة وجيزة .
أو يستطيع الساحر أن يفعل ذلك ؟
قال الملك : إذن ممن تعلمت هذا الكلام الغريب ؟
سكت الغلام ولم يتكلم .
فأمر الملك جنوده فأخذوا يعذبونه حتى دل على الراهب صاحب الصومعة.
فجئ بالراهب. فقيل له: ارجع عن دينك.
فرفض .
فوضع المنشار على مفرق رأسه. فشقه حتى صار نصفين .
ثم جئ بجليس الملك فقيل له: ارجع عن دينك.
فرفض .
فوضع المنشار فى مفرق رأسه.
فشقه به حتى صار نصفين .
ثم جئ بالغلام فقيل له: ارجع عن دينك.
فرفض .
فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال: اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا. فاصعدوا به الجبل.
فإذا بلغتم أعلى الجبل ، فإن رجع عن دينه فاتركوه ، و إلا فاطرحوه.
فذهبوا به فصعدوا به الجبل.
فدعا الغلام ربه أن يكفيه شرورهم ويحميه منهم .
وهنا اهتز بهم الجبل فسقطوا من فوقه ميتين .
ثم رجع إلى الملك.
فقال له الملك: أين الجنود الذين بعثتهم معك ؟
قال: لجأت إلى الله داعيا أن يكفيني شرورهم فاستجاب لطلبي .
فكلف الملك مجموعة أخرى من الجنود أن يقتلوه فقال :
اذهبوا به فاحملوه فى سفينة ، فتوسطوا به البحر.
فإن رجع عن دينه و إلا فاقذفوه يغرق .
فذهبوا به وخيروه أن يرجع عن دينه أو أن يموت .
فقال: يا رب ! إليك ألجأ وعليك أتوكل فاحمني منهم بما شئت.
فانكفأت بهم السفينة فغرقوا.
و رجع إلى الملك.
فقال له الملك وقد فتحه فاه من العجب : ما فعل أصحابك؟
فحكى له ما حدث .
حاول الملك مرات ومرات قتل الغلام ..
لكن باءت جميع المحاولات بالفشل .
و تمنى لو تخلص منه بأي وسيلة .
فقال الغلام للملك: لن تستطيع قتلى حتى تفعل ما آمرك به.
قال: وما هو؟
قال: تجمع الناس فى صعيد واحد.
و تصلبني على جذع.
فبعث الملك من ينادى على الناس ليتجمعوا
وعرف من لم يكن يعرف قصة هذا الغلام .
فتجمع الناس من كل مكان .
فقال الغلام للملك : خذ سهما من كنانتي. وضعه فى القوس .
ثم قل: باسم الله، رب الغلام. ثم ارمني.
فإنك إن فعلت ذلك قتلتني.
فحاول الملك أن يجرب عدة سهام أخرى ، فلم يستطع .
وأخذ الملك يتصبب عرقًا وتمنى لو مات هذا الغلام بأي طريقة.
فقال الغلام : لن تقدر على قتلى حتى تفعل مثلما قلت لك .
فأخذ سهمًا من كنانة الغلام .
ثم قال: باسم الله، رب الغلام.
ثم رماه فوقع السهم فى صدغ الغلام.
فوضع يده فى صدغه فى موضع السهم.
ومات الغلام بإذن الله .
وعندما رأى الناس ما حدث ورأوا عجز ملكهم .
صاحوا : آمنا برب الغلام. آمنا برب الغلام.
فغاظ الملك ما حدث وحاول أن يعيدهم ، لكن الزمام كان قد فلت منه .
فأمر جنوده أن يحفروا أخدودًا فى الأرض .
ونفذ الجنود أمره فصنعوا شقوقًا كبيرة فى الأرض .
ووضع بها مواد مشتعلة وأوقد بها النيران.
وقال: من لم يرجع عن دينه فأحموه فيها.
وكان من بين الذين آمنوا امرأة تحمل رضيعًا لها .
فخافت على رضيعها من الموت .
فنطق الرضيع بإذن الله قائلا :
اصبري يا أماه . فإنك على الحق.
فاستمرت على إيمانها فقذفوها هى ورضيعها الذى تكلم فى المهد .
وثبت أهل الإيمان على إيمانهم رغم ما تعرضوا له من القتل والحرق.
واستحقت هذه الحكاية أن يخلدها الله فى كتابه الكريم فقال تعالى عن أصحاب الأخدود ..
((قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (
)) البروج 4-8
وبعد مرور مئات السنين ..
و فى عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب
بينما كان أحد المسلمين يحفر بيتًا له إذ به يجد جثة الغلام " عبد الله بن التامر " على حالها لم تتغير .
ووجدوه واضعا يده على صدغه ، فإذا أبعدوها عن صدغه ينزف دمًا .
وإذا تركوا يده ترجع إلى مكانها على صدغه .
فرفعوا أمره إلى عمر بن الخطاب فعرفه .
وأمر به أن يدفن كما هو فى مكانه .
ولم يجد أحدٌ جثةَ الملك الظالم ( ذو نؤاس ) لأنه مات كما يموت غيره ، وبقى ذنبه يُعذب به يوم القيامة .
أما الغلام وأصحابه المؤمنين ففى جنان الله ينعمون .